وهذا ما نريد أن نربطه بالواقع، إذ الأحداث الكثيرة المتتابعة تنم عن وجود ثقوب كبيرة في "سفينة الوطن"، وإذا كان الثقب في السفينة علامة على هلاكها، فكذلك الثقوب في سفينة الوطن، والتي تتمثل في مخالفة المنهج الرباني الذي جاءت به الرسل، ولا أدل على خطر هذه المخالفات من الآيات البينات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه، قال الله تعالى: {فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40].
فلم يقع العذاب بأنواعه على هذه الأمم إلا بعد الظلم ومخالفة أهل القرى للمنهج الرباني، فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا، يُعْزَفُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ وَالْمُغَنِّيَاتِ، يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ، وَيَجْعَلُ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ» (رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة، وصححه الألباني).
فالخسف والمسخ ما وقع إلا بسبب مباشرة هذه الذنوب، والمتدبر لعامة النصوص التي وردت في "القرآن الكريم"، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم يجد أن العقوبات تقع بسبب المخالفات الشرعية، والعكس بالعكس يحدث، قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]
وقد يستهين البعض بذلك فتكون حساباته مادية كمن ينسب حدوث الكوارث والزلازل وغيرها من أنواع العقوبات إلى الطبيعة، وينفي أن يكون للإنسان دور في هذه العقوبات، وهذا فهم لم يعرفه السلف، وإلا فما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة، فالذنوب كالثقوب.
وإذا كنا بحاجة إلى التطلع لوضع أفضل والتخلص من الأسوأ لاسيما في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ مصر، فهذا يتطلب منا الوعي التام بقيمة الإصلاح في جميع نواحي الحياة، ومعرفة أحكام وضوابط شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي ارتفعت بها الأمة إلى موضع الخيرية، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمرن: 110].
والقائمون بالإصلاح مِن هذه الأمة هم بنوها من أفرادها إلى قادتها، كل حسب استطاعته إذ من الخطأ قصره على جهة دون الأخرى بشرط أن تنبثق آليات الإصلاح من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو مما لا يتعارض معها من أساليب وأفكار واقتراحات مطروحة للإصلاح.
فالأمور التي هي معلومة لدى عامة الناس لا يصح أن نترك فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة أن هناك علماء متخصصون لذلك، وإلا فقد وجَّه النبي صلى الله عليه وسلم الأمة إلى إنكار المنكر بحسب الاستطاعة، قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» (رواه مسلم).
فأنت إذا رأيت إنسانًا يظلم أو يسرق أو يشرب الدخان، فما الذي يمنعك أن تنهاه، وتقول له: "اتقِ الله، هذا حرام"، وإن لم يكن وقتئذٍ معك الدليل فأنت تعلم أن هذه الأعمال محرمة، ونهيك هذا يُحدث نكاية في قلبه، ويزعزع داخله حالة الاطمئنان التي يؤدي بها المنكر، ربما تجعله يسأل بعد ذلك عن الحكم، أو يقف ليفكر في الذنب، أو أنه يعرف الحكم، ولكنه ينتظر مثل هذه الكلمات التي تكون بمثابة تنبيه من الغفلة، وانتشال من وحل الذنوب والمعاصي.
وهذا إصلاح حقيقي للثقوب في سفينة الوطن، بيد أن للعلماء الربانيين دور في الإصلاح لا نغفله البتة، فهم "مصابيح الدجى" والصفوة التي تباشر مهمة الانتشال السريع، والتصدي الحاسم للفتن والمحن والإحن التي تجتاح البلاد، لاسيما في هذه الفترة الراهنة التي تُبنى فيها مصر من جديد، فالرجوع إلى العلماء أمر حتمي لازم حتى نكون على بصيرة في أمرنا ونهينا، لأننا نتعرض في طريق الإصلاح إلى مسائل تحتاج إلى علم وبصيرة، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].
فأصلحوا ثقوب السفينة، بل اعملوا على حمايتها مِن الخرق مرة أخرى، فمما يتفق عليه العقلاء أن منع وقوع الشيء المكروه خير وأولى من رفعه بعد وقوعه، و"الدفع أولى من الرفع".
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.