من تفسير السعدي
النداء ال(1)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
هذا أمر عام لكل الناس، بأمر عام، وهو العبادة الجامعة، لامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، وتصديق خبره، فأمرهم تعالى بما خلقهم له، قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } .
ثم استدل على وجوب عبادته وحده، بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم، فخلقكم بعد العدم، وخلق الذين من قبلكم، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة، فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها، وتنتفعون بالأبنية، والزراعة، والحراثة، والسلوك من محل إلى محل، وغير ذلك من أنواع الانتفاع بها، وجعل السماء بناء لمسكنكم، وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم، كالشمس، والقمر، والنجوم.
{ وَأَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } والسماء: [هو] كل ما علا فوقك فهو سماء، ولهذا قال المفسرون: المراد بالسماء هاهنا: السحاب، فأنزل منه تعالى ماء، { فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ } كالحبوب، والثمار، من نخيل، وفواكه، [وزروع] وغيرها { رِزْقًا لَكُمْ } به ترتزقون، وتقوتون وتعيشون وتفكهون.
{ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } أي: نظراء وأشباها من المخلوقين، فتعبدونهم كما تعبدون الله، وتحبونهم كما تحبون الله، وهم مثلكم، مخلوقون، مرزوقون مدبرون، لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، ولا ينفعونكم ولا يضرون، { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أن الله ليس له شريك، ولا نظير، لا في الخلق، والرزق، والتدبير، ولا في العبادة فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك؟ هذا من أعجب العجب، وأسفه السفه.
وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة ما سواه، وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته، وبطلان عبادة من سواه، وهو [ذكر] توحيد الربوبية، المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير، فإذا كان كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك، فكذلك فليكن إقراره بأن [الله] لا شريك له في العبادة، وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري، وبطلان الشرك.
وقوله تعالى: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } يحتمل أن المعنى: أنكم إذا عبدتم الله وحده، اتقيتم بذلك سخطه وعذابه، لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك، ويحتمل أن يكون المعنى: أنكم إذا عبدتم الله، صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى، وكلا المعنيين صحيح، وهما متلازمان، فمن أتى بالعبادة كاملة، كان من المتقين، ومن كان من المتقين، حصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه
النداء ال(2)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
هذا خطاب للناس كلهم، مؤمنهم وكافرهم، فامتن عليهم بأن أمرهم أن يأكلوا من جميع ما في الأرض، من حبوب، وثمار، وفواكه، و*****ات، حالة كونها { حَلالا } أي: محللا لكم تناوله، ليس بغصب ولا سرقة، ولا محصلا بمعاملة محرمة أو على وجه محرم، أو معينا على محرم.
{ طَيِّبًا } أي: ليس بخبيث، كالميتة والدم، ولحم الخنزير، والخبائث كلها، ففي هذه الآية، دليل على أن الأصل في الأعيان الإباحة، أكلا وانتفاعا، وأن المحرم نوعان: إما محرم لذاته، وهو الخبيث الذي هو ضد الطيب، وإما محرم لما عرض له، وهو المحرم لتعلق حق الله، أو حق عباده به، وهو ضد الحلال.
وفيه دليل على أن الأكل بقدر ما يقيم البنية واجب، يأثم تاركه لظاهر الأمر، ولما أمرهم باتباع ما أمرهم به - إذ هو عين صلاحهم - نهاهم عن اتباع { خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي: طرقه التي يأمر بها، وهي جميع المعاصي من كفر، وفسوق، وظلم، ويدخل في ذلك تحريم السوائب، والحام، ونحو ذلك، ويدخل فيه أيضا تناول المأكولات المحرمة، { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } أي: ظاهر العداوة، فلا يريد بأمركم إلا غشكم، [ ص 81 ] وأن تكونوا من أصحاب السعير، فلم يكتف ربنا بنهينا عن اتباع خطواته، حتى أخبرنا - وهو أصدق القائلين - بعداوته الداعية للحذر منه، ثم لم يكتف بذلك، حتى أخبرنا بتفصيل ما يأمر به، وأنه أقبح الأشياء، وأعظمها مفسدة فقال: { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ } .
أي: الشر الذي يسوء صاحبه، فيدخل في ذلك، جميع المعاصي، فيكون قوله: { وَالْفَحْشَاءِ } من باب عطف الخاص على العام؛ لأن الفحشاء من المعاصي، ما تناهى قبحه، كالزنا، وشرب الخمر، والقتل، والقذف، والبخل ونحو ذلك، مما يستفحشه من له عقل، { وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } فيدخل في ذلك، القول على الله بلا علم، في شرعه، وقدره، فمن وصف الله بغير ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، أو نفى عنه ما أثبته لنفسه، أو أثبت له ما نفاه عن نفسه، فقد قال على الله بلا علم، ومن زعم أن لله ندا، وأوثانا، تقرب من عبدها من الله، فقد قال على الله بلا علم، ومن قال: إن الله أحل كذا، أو حرم كذا، أو أمر بكذا، أو نهى عن كذا، بغير بصيرة، فقد قال على الله بلا علم، ومن قال: الله خلق هذا الصنف من المخلوقات، للعلة الفلانية بلا برهان له بذلك، فقد قال على الله بلا علم، ومن أعظم القول على الله بلا علم، أن يتأول المتأول كلامه، أو كلام رسوله، على معان اصطلح عليها طائفة من طوائف الضلال، ثم يقول: إن الله أرادها، فالقول على الله بلا علم، من أكبر المحرمات، وأشملها، وأكبر طرق الشيطان التي يدعو إليها، فهذه طرق الشيطان التي يدعو إليها هو وجنوده، ويبذلون مكرهم وخداعهم، على إغواء الخلق بما يقدرون عليه.
وأما الله تعالى، فإنه يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، فلينظر العبد نفسه، مع أي الداعيين هو، ومن أي الحزبين؟ أتتبع داعي الله الذي يريد لك الخير والسعادة الدنيوية والأخروية، الذي كل الفلاح بطاعته، وكل الفوز في خدمته، وجميع الأرباح في معاملة المنعم بالنعم الظاهرة والباطنة، الذي لا يأمر إلا بالخير، ولا ينهى إلا عن الشر، أم تتبع داعي الشيطان، الذي هو عدو الإنسان، الذي يريد لك الشر، ويسعى بجهده على إهلاكك في الدنيا والآخرة؟ الذي كل الشر في طاعته، وكل الخسران في ولايته، الذي لا يأمر إلا بشر، ولا ينهى إلا عن خير.