“قل” ليس من سؤال وليس من جواب! إنّه تقرير يعرف حقيقته المُخاطِب والمُخاطَب، في كل عصر تقرأ هذه الآيات في كل عصر يكون التقرير ذاته على أنواع من الخروج على التوحيد، حين يظن الناس أنّ المقادير والتقدير بغير الإرادة العظمى.
إنّ الإيمان حصن العقل – صنع العظيم المكرّم – والشريعة دليل تشغيله وصيانته؛ فمن فقد الإيمان بات غنيمة الهوى بغفلته، ومن لم يفقه الشريعة والواقع بميزان واحد فمنال مبتغاه سراب، القرآن يقرأه القاعدون ويستقرأه العاملون… أما من لا شريعة له فالظن هديه وإن حسن حصنه، فمرة إلى تيه ومرة إلى رشاد, فلا ينال بغير الكامل الاكتمال، وإنما التكامل بالجمع والإفراد شرود.. وأما غنيمة الهوى فله عقل منتج يسد ويوسع في الحاجات وجنوح الغرائز، ولذا فهو بلا أمان، فتنقلب الموازين, فمِن سعيّ لرفع قيمته يهبط الانسان…. اللهم نسألك الأمن والأمان.
فهل يملك أهل الهوى منعة لأنفسهم ليمنعوh الضر أو يعطوh النفع للآخرين, وكم لنا في واقعنا من مَثَلٍ مزقوا العباد ودمروا البلاد وهم يقسمون أنهم ما أرادوا إلا الإصلاح, إنْ يرَ البعض لهم قوة ولا تفلت من انتباهتهم حركة, فذاك ليس بالأمر العجيب؛ لأنّ العقول التي أنزل الله عليها فكرًا صافيًا كما المطر تنزل على الارض.
إنَّ الله ينزّل الحقائق صافية على أنفس ملوّثة, وفيها قوة وضعف, فأما الأنفس القوية فيغسله ذلك الفكر كما الماء, وأما النفوس التي ما استقرت فترحل مندفعة بقدر ضعفها, تكبر فتحمل ما فيها من زبد, يعلو ويعلو على عظم رجسها ورغبات وحب للمال والجاه والعظمة, وكله محض خواء, وإن بدى عظيمًا عاليًا، لكنها تحمل معها وتبرر لانحرافها بدل نقائها كل بحجم الأخدود الذي تكون من ضعفه.. فكانت طلائع وجودهم ومظهرهم زبدًا رابيًا، لكنها كلها إلى نهاية, وأما الباقي هو الأرض الصلبة التي يقام فيها الزرع ويؤخذ منها الحصاد.
إنَّنا نرى دعوة في هذه الآيات لمعرفة الحقيقة ووزن الخطوات, وأن نعلم أن القوة ليس بظاهرها، ولا ما نملكه ونلمسه بأيدينا، وأنّ العز والنفوذ والمكانة ليست تلك التي تغرينا، وأما هذا كله زبد مثل ذاك الذي انجرف، فأحال الفكر الصافي إلى طوائف, ونحل وشعب كلما عظمت عظم الضعف الذي فيها..
وهذا ما نراه اليوم في واقعنا من أناس يسمون كلهم بالمسلمين، لكنهم غثاء ونتاج انجراف نتيجة الخواء الذي فيهم فكانوا بلا حصن مشيد، ولا هدي رشيد, وما اتبعوا واقعًا إلا الظن، ففقدوا الأمان.. بل لا أمن لهم.
إنّ على طاقات الأمة أن تنتبه لواقعها، وتنتبه لحقيقة سيرها بدل أن تجعل مصيرها نهبا، وأن تستعيد الوعي والرشاد.
إنّ مثقفي الأمة أمام مسئولية التحرر بعقولهم من التقليدية والفهم التلقائي وتثبيت الانطباعات المنقولة عبر أجيال على كل أبناء الفرق مهما كانت تسميتها، وكل من حملت اسمًا، فإنّ الله سماكم المسلمين على لسان أبيكم إبراهيم، فمن كان له اسم غير هذا فليراجع فكره وليحرر عقله, لأنّ عقله مستعمر بأفكار لا تهدي إلى الرشد ولا تقود برشاد، علم أم لم يعلم!
إنَّ الله جعل لنا من عقولنا كينونة تنتج, وحراك دائم, فأينما توجهت أبدعت لك نظامًا, ووضعتك على طريق, ولنتأمل قوله تعالى ثم نسأل: “لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ)، الله حافظ لهذا المخلوق، مسلما بوذيا او لا دين له, يحفظه الله عقلاً عاملاً يقوم بمهمته في الحياة، ومكلف بالبحث ومدعو لشتى الخيارات وهنا يقيّم الصانع كفاءة صنعه فإما الى نار أو إلى حسن مآب, ومهما حصل فإنّ المكلف المبلغ والواضح الآمر له إن تخلى ونأى فالله ليس بعاجز عن أمـر فمنهم من يريهم الذل بأيديهم وفعلهم ومنهم من يهدي.
فما نقول في أقوام بلغت أوجها من الصناعة والعلم والرفعة والتمكين, أنهم ليسوا مسلمين, والله قد قال لنا أنّ اكثر الناس لن يكونوا مسلمين، وأنك لو حرصت ومهما حرصت فلن تكون الأكثرية، إذًا فالكثرة والقدرة ليست الميزان، وإنما الميزان هو فعل العقل وإدارته للواقع وضربه للنموذج الواضح الفاعل… فهم تحسسوا واقعهم وتحركت عقولهم حين صارحوا أنفسهم، واستلوا ما كان معيقًا لهم فتقدموا إلى ما تهوى أنفسهم، وازدادت وعظمت الحاجات فعظم عمل العقل لسدها فازدادت المنتجات، وتضاربت المصالح فكانت الحروب والمخابرات، فكانت الصناعات، ومن هذه الصناعات وتطورها وضعوا طريقا للإمدادات يسلك مسلكًا تجاريًا وماليًا…
إنّه ليس بالهدي وإنما هو انتاج الهوى, ونحن نرى العالم اليوم كيف هو على حفرة من نار تكاد تتلقفه, هنا الجواب, هنا المهمة، تلك مهمة الإسلام في توازن العقل والحياة.
الحق أقول لكم، إنَّ نهضة الإسلام وأهله العارفين, وليس من هم بعقليات السواد, ضرورة لمصلحة الأرض والعباد, ولابد أن يتعاون الجميع من أجلها, مسلمون كانوا أو غير مسلمين, شرقيون وغربيون, فقد وصل الأمر أننا نستشهد الكذب على صدقنا, ونعرف الأمور ونوئدها وهذا جهل أقرب للعمى، وإنما يتذكر أولو الألباب