كلمـة أتت من قامـوس الألم لا يشعر بها إلا السجـين ، نعم
فالسجن لا يقتصـر على صندوق مكعب خاوٍ صنعته أيادي البشـر وإنمـا يمتد
ليطول قلب المرء وعقله وجوارحه ، والغيـاب بمعنـاه الذي أراه يتمثـل فى
كلمـة واحدة وهي الغربة ، والتي كان لي معهـا ردحـاً من الزمن ولا زال ،
وقد كتبت فيهـا من قبل ومازلت وسأظل .
الغـربة :
لو تعودت عليها ما حسست بها ، ولولا إحساسي ما استطعت أن أكتب ، ولعظم ما بي ، أتحير من أين أبدأ .
وتلك هي الغربة .
يالها من كلمة قاسية وكأني إن أصمت بعد نطقها كانت تكفي لأن يصل معناها إلى كل من يقرأها ، وكل حسب تفكـيره وما يصل إليه من ألم .
صحيح أن الغربة أنواع وأشكـال تختلف باختلاف الحالة ، والحالة بطبعها تختلف بما يتناسب مع الإحساس بالغربة الملائمة لهـا .
والغربة
لا تصاحب إلا الفاقد لشيء مـا ، ولو بحثنا عن فردٍ بعينه امتلك كل ما يحلم
به ، ما وجدناه أبداً لذا فجميعنا غريب ، وكل وأحزانه وسطوتها .
للوطن
فينا شيء وكثير ما كان هذا الشيء هو الروح ، فمن امتلك فينا الروح هبةً منا
ملك معها جوارحنا رغمـاً عنا ، فإن كانت الروح بعيدةً عن الجسد ، باتت
المسافة بين الاثنين سجناً يتضائل كلما قصرت ويتسع بمرور الوقت كلما كبرت
الفجوة بين الاثنين ، وليس بغريب على مُغـاربٍ أن يتفنن فى إظهـار عذاباته .
ولمـاذا الوطن ؟؟
الأهـل ، الصحـبة ، الحبيب ، الذكرى ، المكـان ، كياني ؟؟
هذا هو الوطن الذي تركناه برضانا ، وكل ما يتبقى مع الغريب هو نفسه التي هي أيضـاً مغتربةً بدورها .
هناك – في بيتي – رأيت أمي لأول مرة وتربيت فى أحضان الحنان ، ترعرعت فى كنف والدي تعاطيت الحياة بكفيهما ،،
وهنا
– فى مأواي – جلبت نفسي معي فخانتني وهربت ، بحثت عنها حولي فلم أجدها ،
فى مهاتفةٍ بأمي شعرت بشيء غريب ، عندما سمعت صوتها وجدت نفسي بقربي ،
وتذكرت والدي الذي تركني صغيراً ورحل ، فطاقت نفسي لذاك الحضن البعيد الذي
ارتشفت منه الحب فتذكرت المسافة التي بيني وبينهما ، فعلمت أني سجنت نفسي
بإرادتي .
هناك – في جلستي الخـاصـة – جلس معي ، تبسم وسر إليّ
بحديث كان مؤجلاً ، فأدليت برأيي ، فتبسم ، باب مجلسي يُقرع ، يلتفت للباب ،
ثم لي ، أختي وراء الباب تهتم برجولتي ، آتيةٌ بما جادت علينا به ، فيتبسم
، أسرُ إليه بشيء يضايقني ، فيدلي برأيه ، لأتبسم ،،
وهنـا – فى وحدتي – يجلس معي واجمـاً ، فأقابله بصمتي ، يحدثني فأقاطعه بحديثي ، يتركني ويرحل ، فلا أدري متى أتى وأين ذهب .
هناك
– في عينيها – نسيت الماضي ، غير مكترث بالحـاضر ، أرسم فيهما مستقبلي .
تحاصرني بالأسئلة ، فأحتج ولا أجيب ، فحيرتها تؤكد لي شغفها ،،
وهنا – في طيفهـا – أحدثهـا ، أناجيهـا ، أرسل لهل عبر النسيم ما يطمئنها ، فأسأم من نفسي ، ليتني أجبتها .
هناك
– فى عالمي – أسبح فى الخيال ، أتذكر أياماً أطربتني ، أبكي لألمٍ كان
حاصرني ، أنتظر عودتهم .!! أتوه فى محتوى من معي ، فلا أهتم بما يسكتني ،،
وهنا
– في سجني – أصنع رفوفاً وهمية على حوائط محسوسة غير مرئية ، لأكدس بها
ذكرياتي ، فتضيق علي الدنيا فتخنقني عبرتي ، فأستسلم لليأس ، فيأتي ويأكلني
.
هناك – في أرضي – آمـر وأنهي ولا أئتمر ، أعيش الحياة جدٌ وكد ، وأذكر اللهو ووقت السمـر ، أضحك ، أبكي ، أنا حـر ، وتلك إرادتي ،،
وهنا – في قبري – أتحسر على ما فاتني ، وأنتظـر عذاباً أكثر مما أنا فيه .
هناك – فى الحـياة – غريب بإرادتي عن أشياءٍ تكملني ، لكنها لا تنقص من قدري إن لم أجدها ،،
وهنـا – فى الموت – غريبٌ رغمـاً عني ، عن أشياء تساعدني ، كي أتعود العيش في سجنٍ دخلته بإرداتي .
وقد علمتني الغربة ، أشياءاً
ستكون فضفضةً فى وقتٍ آخر ، لكنه قريب .
لكن القريب فى نظـر المغــترب ، يراه دهـراً إذ أنه قد فقد الأمـل بفرط ما فيه من لهف ، وفقد الاحساس بالوقت بفرط ما فيه من ضيق .
فما عليكم غير الصــبر