قال تعالى : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ .
أخبر - - صلى الله عليه وسلم - - أن الحج أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام , وأن من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه , وأن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة , وكل هذا في الصحيحين .
وأخبر أن الحج والعمرة ينفيان الذنوب والفقر كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة .
وورد في فرضه وفضله وثوابه أحاديث كثيرة وذلك لما فيه من المنافع العامة والخاصة , وقد بيَّن الله تعالى مجمل حكمه ومنافعه في قوله : لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ . أي منافع دينية واجتماعية ودنيوية .
وقال : جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ . الآية . فإن به تقوم أحوال المسلمين ويقوم دينهم ودنياهم , فلولا وجود بيته في الأرض وعمارته بالحج والعمرة والتعبدات الأخر لآذن هذا العالم بالخراب. ولهذا من أمارات الساعة واقترابها هدمه بعد عمارته وتركه بعد زيارته , فإن الحج مبني على المحبة والتوحيد الذي هو أصل الأصول كلها , فإن حقيقته استزارة المحبوب لأحبابه وإيفادهم إليه ليحظوا بالوصول إلى بيته ويتمتعوا بالتذلل له والانكسار له في مواضع النسك ويسألوه جميع ما يحتاجونه من أمور دينهم ودنياهم , فيجزل لهم من قراه ما لا يصفه الواصفون .
وبذلك تتحقق محبتهم لله ويظهر صدقهم بإنفاق نفائس أموالهم , وبذل مهجهم في الوصول إليه , فإن أفضل ما بذلت فيه الأموال وأتعبت فيه الأبدان , وأعظمه فائدة وعائدة ما كان في هذا السبيل . وما توسل به إلى هذا العمل الجليل , ومع ذلك فقد وعدهم بإخلاف النفقات والحصول على الثواب الجزيل والعواقب الحميدة .
ومن فوائد الحج أن فيه تذكرة لحال الأنبياء والمرسلين ومقامات الأصفياء المخلصين .
كما قال تعالى : وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى والصحيح في تفسيرها أن هذا عام في جميع مقاماته في الحج من الطواف وركعتيه والسعي والوقوف بالمشاعر ورمي الجمار والهدي وتوابع ذلك .
ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يقول في كل مشعر من مشاعر الحج : خذوا عني مناسككم فهو تذكرة بحال إبراهيم الخليل والمصطفين من أهل بيته , وتذكير بحال سيد المرسلين وإمامهم ومقاماته في الحج التي هي أجلّ المقامات .
وهذا التذكير أعلى أنواع التذكيرات , فإنه تذكير بأحوال عظماء الرسل إبراهيم ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ومآثرهم الجليلة وتعبداتهم الجميلة , والمتذكر بذلك مؤمن بالرسل معظم لهم متأثر بمقاماتهم السامية مقتد بآثارهم الحميدة ذاكر لمناقبهم وفضائلهم فيزداد به العبد إيمانا ويقينا .
وشرع أيضا لما فيه من ذكر الله الذي تطمئن به القلوب ويصل به العبد إلى أكمل مطلوب كما قال - صلى الله عليه وسلم - : إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله .
ومن فوائد الحج أن المسلمين يجتمعون في وقت واحد وموضع واحد على عمل واحد
ويتصل بعضهم ببعض ويتم التعاون والتعارف ويكون وسيلة للسعي في تعرف المصالح المشتركة بين المسلمين والسعي في تحصيلها بحسب القدرة والإمكان , وبذلك تتحقق الوحدة الدينية والأخوة الايمانية; ويرتبط أقصى المسلمين بأدناهم فيتفاهمون ويتعارفون ويتشاورون في كل ما يعود بنفعهم , وبذلك يكتسب العبد من الأصدقاء والأحباء ما هو أعظم المكاسب ويستفيد بعضهم من بعض .
أما توابع ذلك من المصالح الدنيوية بالتجارة والمكاسب الحاصلة في مواسم الحج ومواضع النسك فإنها تفوق العد , وكل هذا داخل في قوله تعالى : لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ .
موسم عظيم لا يشبهه شيء من مواسم الأقطار , كم أنفقت فيه نفائس الأموال وكم أتعبت في السعي إليه الأبدان وكم حصل فيه شيء كثير من أصناف التعبدات , وكم أريقت في تلك المواضع العبرات وكم أُقيلت فيه العثرات وغفرت الذنوب والسيئات , وكم فرجت فيه الكربات , وقضيت الحاجات. وكم ضج المسلمون فيه بالدعوات المستجابات . وكم تمتع فيه المحبون بالافتقار إلى رب السموات , وكم أسبغ البارئ فيه عليهم من ألطاف ومواهب وكرامات , وكم عاد المسرفون على أنفسهم كيوم ولدتهم الأمهات , وكم حصل فيه من تعارف نافع واستفاد به العبد من صديق صادق , وكم تبودلت فيه الآراء والمنافع المتنوعة , وكم تم للعبد فيه من مآرب ومطالب متعددة , ولله الحمد على ذلك .